القرآن في القرآن

12 06 2022 631247 بطاقة تعريف:
الكاتب: آیه الله جوادی آملی
الملخص:
بسم الله الرحمن الرحیم مظهریة الإنسان في جمیع أسماء الله الجمالیة والجلالیة إنّ الله الذي خلق عالم الإمکان فإنّه جعل آیة جماله في عرض الخلقة وأشار إلی سعة هذه الخلقة قائلاً:« اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ»؛ وأشار إلی جمال سعة عالم الإمکان أیضاً بقوله:« الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ»؛ إلّا أنّه بخصوص الإنسان الذي یستطیع أن یصبح کوناً جامعاً فعناه عنایة خاصة حیث استخدم في خلقه یدیه الجمالیة والجلالیة وجعله مظهراً لأسمائه الجلالیة والجمالیة ودعاه إلی الجمع بین التنزیه المحض والتشبیه الصرف بقوله السرّيّ قائلاً:« خَلَقْتُ بِيَدَيَّ»؛ حیث إنّه بخلق هذا النوع من المخلوق قال في حقّ نفسه:« فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ». إذن؛ لابدّ لتربیته من وجود أفضل علم وأبرز مکتب؛ فبعثه نحو البحث عن أحسن القول بقوله:« فَبَشِّرْ عِبَادِ * ‏الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ»؛ ثمّ جعل أحسن القول للمتکلّم الموحّد في عقیدته وخلقه وعمله؛ فقال:« وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ»؛ فالقول الذي لا یدعو إلی الله عزّ وجلّ أو یصدر ممن لم یعتقد بقول نفسه ولم یوافق عمله ومنطقه دعوتَه فلم یصلح للاتباع؛ حیث إنّه خال عن الحسن الفاعليّ وإن کان لدیه شيء من الحسن الفعليّ؛ والکلام لو لم یتغذّ من وجود الموحّد فلم یکن له تأثیر في قلب المستمع ولم یتلائم مع جمال الإنسان قهراً الممتاز فیذهب بعد ذلك قطعاً. فأشار بأحسن الأقوال؛ أي: القرآن الکریم فقال:«اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ»؛ کما أنّه أشار إلی أبرز متکلم؛ أي: النبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله) فعرّفه إلی العالمین بقوله:« أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي»؛ فعرفه بعنوان المسلم الصادق ولم یکتف بذلك حتّی عرّفه بعنوان کونه أوّل المسلمین في عالم الإمکان الذي لم یسبقه أحد بهذا الوصف فقال:« قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‎ لم یسبقه أحد بهذا الوصف فقال:»م یوافق *‏لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ»، وقوله تعالی:« وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ». فالمراد بالأول هنا هو التقدّم الوجوديّ للرسول الأکرم (صلّی الله علیه وآله) في الخلق وتقدّم مقامه التوحیدي وفي النهایة؛ سبق ظهور الولایة الذي قال عنه عليّ بن أبي طالب (علیه السلام):«صدّقته وآدم بین الروح والجسد». الانتفاع بالهدایة التکوینیة بسبب الإطاعة لو أطیع أحسن القول الذي تمّ تبیین خصوصیّاته وخصائث قائله في لسان الوحي فیصبح الإنسان حکیماً متألّقاً وینتفع بهدایة تکوینیة مخصوصة حینئذ والتي تکون ثمرتها طيّ طریق السلامة والوصل إلی مقصد یأمن فیه من سوء الحزن وخوف الداخل وتلف الخارج [إشارةً إلی قوله تعالی]؛« قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ»؛ ویتمّ علاج أي نوع من الآلام الفکریة والإلحادات المادیة والشبهات الاعتقادیة أیضاً؛ ومثلها الآلام الأخلاقیة:« يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ». دوران جمیع أطوار القرآن الکریم الوجودیة حول الحقّ نظراً إلی کون قول الله تعالی أحسن الأقوال فیکون إرشاده أحکم الإرشادات أیضاً؛ فقال:«إنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ»؛ ونظراً إلی کون الوحي الإلهي حقاً من جهة المبدأ الفاعليّ ویکون مع الحقیقة من جهة المبدأ القابليّ ویکون بریداً أمیناً من جهة العلل الوسطیة فلم یکن بعیداً عن الحقّ، فیکون في جمیع أطواره الوجوديّ دائراً مدار الحقّ ولم یدخل حرمه الآمن شيءٌ من الباطل:« وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ»؛ و:«لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ»؛ وبما أنّه مشتمل علی الحکمة النظریة وجامعة للحکمة العملیة بکلّ إتقان أیضاً فعرّف بعنوان إیحاء الحکمة [وهو المستفاد من قوله تعالی]؛« ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ». فإنّه لکونه أنزل بغرض هدایة العالمین فلم ینطق بلغة فئة خاصة بل تکلّم مع جمیع الناس بلسانهم المشترك وهو لسان الفطرة قائلاً:« فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا»؛ ومن هذه الجهة ینزّل المعارف العالیة بالتمثیل حتّی ینتفع منها الجمیع:« وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ». إنّ النقطة الخافیة في عبارة "غیر ذي عوج" هي أنّ القرآن الکریم مضافاً علی کونه عدیماً للاعوجاج فإنّه لن یقبل الانحراف بحال من الأحوال وبعید عن حریمه کلّ اعوجاج وانحراف؛ وهو نظیر التعبیر بـ"غیر ذي زرع" الذي ورد في وصف أرض مکة. فالتفاتاً إلی کون معلّم هذا الکتاب هو الله الرحمن تعالی:« الرَّحْمَٰنُ*عَلَّمَ الْقُرْآنَ»؛ ورحمته مصطحبة مع الاجتناب عن الفساد والقلب المذنب بعید عن الرحمة الإلهیة ولم یبلغ فهم المعارف القرآنیة باعتباره منوطاً بالرحمة الخاصة وهو غیر حاظ بها، ففي الوحي الإلهيّ أشیر إلی نقطتي کون التقوی القلبي شرطاً لتلقّي معاني القرآن، وکون الانحراف الفکري مانعاً من تلقّیها بقوله تعالی:«إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا»؛ وقوله سبحانه:«وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ»؛ وقوله عزّ وجلّ:« أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا». ثقل القرآن الکریم ویسره علماً بأنّ مضامین القرآن لا تکون إلّا مع البرهان فیکون ثقیلاً وزیناً وبما أنّه منسّقة مع الفطرة فیکون یسراً؛ إذن لا یکون خالیاً عن المحتوی وخفیفاً ولا یکون صعباً کرهاً علی علی الفطرة؛ فلقد أشیر إلی النقطتین [في القرآن الکریم]؛« إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا»؛ وقوله تعالی:« وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ». حیث إنّ تنزّل القرآن الکریم إنّما هو علی نحو التجلّي لا التجافي ففي عین نزوله وجعل بین أیدي الجمیع فأصله عند متکلّمه ومعلّمه؛ أي: الله سبحانه وتعالی باق بنحوه البسیط والمجرّد الکامل فتلك المرحلة الأصلیة المسمّاة بـ"أمّ الکتاب" وهذه المرحلة هي المرحلة الفرعیة المرتبطة بذلك الأصل والمعتمدة علیه؛ فلم یبلغ الناس کلّهم ذلك المقام المحجوب؛ لإنّه:«إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ*فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ». إنّ الرسول الأکرم (صلّی الله علیه وآله) کما أنّه ظرف وجود القرآن المنزل في مرحلة التنزّل وقد رآه في المقام المکنون ونال لقائه أیضاً:«وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ»؛ فوجوده المبارك في عالم العقل قرآن معقول وفي عالم المثال قرآن ممثّل وفي مرحلة الطبیعة قرآن ناطق ومثله أهل بیته (صلوات الله علیهم أجمعین) الذین کلّهم نور واحد واعتباراً بکون أمیر المؤمنین (علیه السلام) بمنزلة نفس الرسول الأکرم (صلّی الله علیه وآله). إنّ الوحي بما أنّه مصطحب مع میزان الحقّ والعقل فالأولوا الألباب الذین لهم نصیب من هذا المیزان فقد وصلوا إلی حقیقة القرآن ویحسبه الجاهلون أسطورة:« وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ». ضرورة لحاظ مجموع الآیات نظراً لکون جمیع آیات القرآن الکریم منسّقة ومتحدة وأنّ کلّ واحدة منها تمیل إلی الأخری وتهيّئ ساحة ظهورها فیکون القرآن متشابهاً ومثانيَ وبأثر الانثناء والانعطاف المخصوصین الموجودین بینها فلا یمکن أن تؤخذ آیة منها مجردّة عن المجموع وأن تجعل مورداً للتحقیق:«اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ». قد تمّ تبیین تمثیل متوسط بغرض الاطلاع علی علوّ القرآن الکریم بأنّه لو أنزل علی جبل فلم یطق الجبل تحمّله ویتصدّع من خشیة الله الذي هو متکلّم هذا الکلام السماويّ:«لَوْ أَنزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ». وإن کان للقرآن مقام مکون لا یطیقه الجبل وحده بل لن تطیقه السماوات والأرض وجمیع الجبال أیضاً:«إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا»؛ وفي الیوم الذي تظهر حقیقة القرآن الکریم ستزول السماوات بأسرها ویبدّل النظام الموجود بمجموعه إلی نظام آخر؛ حیث إنّ القرآن الکریم کما عبّر عنه القرآنُ الناطقُ الإمامُ أمیرُ المؤمنین (علیه السلام)؛«وبحراً لا یدرك قعره». فلأنّ الله الأکرم هو مبدأ تنزّل القرآن الکریم فتکون مجاري تجلّیه الکرامة أیضاً ویکون مسلکه تربیة الکرماء أیضاً؛ حیث إنّه بدآ بدایته بقوله تعالی:«اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ»؛ وقال بخصوص العلل الوسطیة ومجاري التجلّي:«فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ»؛ وقال تعالی أیضاً:«إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ»؛ فلا یکون من یتربّی لدیه إلّا کریماً قهراً. بما أنّه کلام قاطع وقول جدّ فهو منزّة عن کلّ شبهة وارتیاب وهزل؛ فقال تعالی:«إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ»؛ ونظراً لمقاومته الکاملة تجاه کلّ مکتب وإنقاذه لأتباعه الصادقین من کلّ اعوجاج ودعائه الناس إلی القیام بالقسط فیکون قیّماً للجوامع البشریة جمعاء:«رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ». من جهة کونه مظهراً لجمل الحقّ وینصر العالم العامل لرؤیته بعین القلب ویهبه الرؤیة القلبیة أیضاً؛ وإن لم یکن للجهّال أو العلماء غیر العاملین نصیب من من هذا الشهود فعدّ محلّاً لتجلّي الله تعالی؛ کما قال أمیر المؤمنین (علیه السلام):«فتجلّی لهم سبحانه في کتابه من غی أن یکونوا رأوه»؛ ومثله قول الصادق (علیه السلام) حیث قال:«لقد تجلّی الله لخلقه في کلامه ولکنّهم لا یبصرون». فلأنّ نزول القرآن الکریم علی نحو التجلّي لا التجافي ففي عین الوقت الذي یکون بین أیدي الناس بمرتبته النازلة فقد تکون مرتبته العالیة عند الله تعالی سبحانه وتعالی وإنّ العلاقة القائمة بین المراتب هذه غیر قابلة للانفصام، ومن حصل علی مرتبة من هذه المراتب فیستطیع أن یجعلها السلّم للرقيّ إلی المرتبة الأعلی؛ فقد أشیر إلی النقطة الأولی وهي وجود علاقة بین مراتب القرآن الکریم [وذلك في حدیث الثقلین حیث قال (صلّی الله علیه وآله)]؛«إنّي تارك فیکم الثقلین أحدهما أکبر من الآخر کتاب الله تبارك وتعالی حبلٌ ممدود من السماء إلی الأرض وعترتي»؛ لأنّ الحبل الذي مدّ من سماء الغیب إلی أرض الشهادة فقد ثبت بین مراتبه علاقة وثیقة غیر قابلة للانفصام قطعاً؛ وأشیر إلی النقطة الثانیة أیضاً؛ وهي أنّ کلّ مرتبة مختصة لفئة خاصة ولیس للجمیع السبیل إلی جمیع المراتب والمعارف؛ حیث قال کلّ من الإمام الحسین بن عليّ (علیه السلام) والإمام الصادق (علیه السلام):«کتاب الله عزّ وجلّ علی أربعة أشیاء؛ علی العبارة، والإشارة، واللطائف، والحقائق؛ فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولیاء، والحقائق للأنبیاء». اختلاف الأفراد في تلقّي المعارف إنّ کلّ إنسان یحمل أمانة القرآن بقدار تحمّله، وإنّ العترة الطاهرة (صلوات الله علیهم أجمعین) الذین هم العدل الدائم للقرآن الکریم کانوا یعلّمون کلّ شخص بمقدار تحمّله. عندما سئل الإمام الصادق (علیه السلام) عن تفسیر قوله تعالی:«ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ»؛ فبیّنه الإمام (علیه السلام) لعبدالله بن سنان بنحو ولذریح المحاربي بنحو آخر؛ ثمّ سئل الإمام (علیه السلام) عن سرّ هذا الاختلاف؛فقال صدق ذریح وصدقت؛ إلّا أنّه:«ومن یحتمل ما یحتمل ذریح»؛ أي: من یتحمّل ما یتحمّله ذریح من أسرار القرآن ومعارفه؟! إذن إنّ البعض یقوم بحمل أمانة عبارة القرآن ویقوم آخر بحمل أمانة حقائقه. وعندما سأل جابر الإمامَ الباقر (علیه السلام) عن تفسیر الآیة؛ فأجابه الإمام بنحو. ثمّ سأله عن تفسیر الآیة نفسها مرة أخری فأجابه الإمام (علیه السلام) بجواب آخر؛ فقال له جابر: فقلت جعلت فداك كنت أجبت في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم فقال:«يا جابر إنّ للقرآن بطناً وللبطن بطناً وظهراً وللظهر ظهراً يا جابر وليس شي‌ء أبعد من عقول الرّجال من تفسير القرآن؛ أنّ الآية ليكون أوّلها في شي‌ء وآخرها في شي‌ء؛ وهو كلام متّصل ينصرف على وجوه». لو حظي أحد علی توفیق الترقّي إلی الأعلی باستعانة من المراتب النازلة فیحشر مع الملائکة الکرام البررة الذین هم رسل وحي الله تعالی؛ کما قال الإمام الصادق (علیه السلام):«الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الکرام البررة»؛ ویعدون من أبرز الشخصیات في أمّة النبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله)؛ حیث إنّه (صلّی الله علیه وآله) قال:«أشراف أمّتي حملة القرآن وأصحاب اللیل». فإنّ المراد بحفظ القرآن حفظه قلباً الذي لا یتیسّر إلّا بالمعرفة الصحیحة والعمل الصالح المستند إلی المعرفة؛ فلو کان قلب حافظاً للقرآن بهذا النحو فیصبح بنفسه ظرفاً للقرآن؛ وإنّ القلب الذي أصبح ظرفاً للقرآن فلن یعذّب حینئذ؛ کما قال رسول الله (صلّی الله علیه وآله):«لا یعذّب الله قلباً وعي القرآن»؛ ولکون وجود درجات کثیرة لمعارف القرآن الکریم فینبغي أن یبذل الإنسان قصاری جهده في خدمة القرآن حتّی یطلع علی خزائنه واحدة تلو أخری؛ وإلیه أشار المولی زین العابدین (علیه السلام) حیث قال:«آیات القرآن خزائن العلم فکلّما فتحت خزانة فینبغي لك أن تنظر فیها». حداثة القرآن وقابلیةُ عرض محتواه دائماً بما أنّ القرآن نزل بغرض تربیة فطرة الناس التي لا تتغیّر وأنّ الله سبحانه هو المتکلّم بهذا الکلام السماويّ فإنّه خبیر بحقیقة الفطرة وصیانته من کلّ تغییر؛ فقد رتّب محتواه بنوع یکون جدیداً حدیثاً قابلاً للعرض في کلّ وقت، ومن جهة أخری إنّ المعارف العقلیة والکلیة المتجلّیة من خلال الآیات الإلهیّة فهي مصونة من آفة القدم والاندارس؛ کما سئل الإمام الصادق (علیه السلام): ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلاّ غضاضة؟ فأجاب (عليه‌السلام):«لأنّ اللّه تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كل قوم غضٌ إلى يوم القيامة». قد یشبّه القرآن في حداثته ودوامه بشیئین مشرقین وهما الشمس والقمر؛ کما قال الإمام الباقر (علیه السلام):«یجري کما یجري الشمس والقمر»؛ أي: أنّ القرآن یضيء الحیاة کضیاء الشمس والقمر في السماء؛ ونظراً إلی کون القرآن سبباً لتکامل الإنسان المخفيّ فلم یحتج إلی عامل آخر؛ حیث إنّ کمال کلّ عامل آخر ینشأ في ظلّ الوحي الإلهيّ. إذن أنّ القرآن لم یکن مائدة مبسوطة أمام الجوامع البشریة حتّی یأکل کلّ شخص ما طبخه بیدیه بجانب مائدة القرآن فیحسبه علی القرآن؛ بل إنّ القرآن بنفسه طعام مطبوخ جاهز؛ لا أن تکون مائدة؛ فلهذا عبّر عنه النبيّ الأکرم (صلّی االله علیه وآله) بالمأدبة فقال:«القرآن مأدبة الله فتعلّموا مأدبته ما استطعتم». وعلیه فلا یمکن أن تحسب الآراء والأفکار المجموعة من قبل علی القرآن وتحمیلها علیه أیضاً فإنّ هذا هو التفسیر بالرأي وهو من أسوء طرق معرفة القرآن الکریم؛ کما قال النبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله):«إنّ الله سبحانه قال:«ما آمن بي من فسّر برأیه کلامي»؛ وقال (صلّی الله علیه وآله) أیضاً:«من تکلّم في القرآن برأیه فأصاب فقد أخطأ ومن قال في القرآن بغیر ما علم جاء یوم القیامة ملجماً بلجام من نار». وورد عن الصادق (علیه السلام) أیضاً:« من فسّر القرآن برأيه، إن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ سقط أبعد من السّماء إلى الأرض»؛ وهذا في الحقیقة عدول عن القرآن الذي وصفه النبيّ (صلّی الله علیه وآله) بقوله:«وما عدل أحد عن القرآن إلّا إلی النار». إنّ القرآن بما أنّه نور فلا یعتریه إبهام حتّی یستفید أحد بذریعة إبهام محتواه وظلمته من نتیجة فکر نفسه مستمدّاً بها ویخرج القرآن من الظلمة والإبهام؛ حیث إنّه قال الإمام الباقر (علیه السلام): قمن زعم أنّ کتاب الله مبهم فقد هلك وأهلك»؛ بل جائت الحقائق کلّها في القرآن الکریم وإنّما المانع من المعرفة الکاملة هي ظلمة أفکار الناس العادیین؛ کما قال في ذلك الإمام الصادق (علیه السلام):«ما من أمر یختلف فیه إثنان إلّا وله أصل في کتاب الله لکن لا تبلغه عقول الرجال»؛ لأنّ القرآن الکریم قد عرّف بـ"جوامع الکلم" ویستحیل أن ینعت في لسان الوحي شيءٌ بکونه جامعاً ولم یشتمل علی جمیع الأصول والمعارف الموجبة للسعادة البشریة أو أن یقولها بإبهام فإنّه لا یکون نوراً أبداً؛ وذلك لقول النبيّ (صلّی الله علیه وآله):«وأعطیتُ جوامع الکلم»؛ ثمّ سئل الإمام الباقر (علیه السلام):ما "جوامع الکلم؟"؛ فأجاب (علیه السلام):«القرآن». تهذیب النفس هو أفضل طریق لفهم القرآن الکریم إنّ الله تعالی وصف القرآن بکونه نوراً، وأفضل ظریق لفهم القرآن الکریم هو تهذیب النفس من التعلقات غیر الإلهیة والاجتناب عن کلّ فساد والقیام بکلّ أمر صدر عن ناحیة الوحي الإلهي؛ حیث إنّه لا یمکن حصول رؤیة الجمال النوراني ببصر ضعیف ومغلق. وعلیه کانت سیرة القدماء الذین کانوا ینالون توفیق التدبّر في القرآن الکریم أنّه یتلقّون عشرة آیات من الرسول الأکرم (صلّی الله علیه وآله) فلم یتجاوزون هذه العشرة إلّا بعد تلقّي ما یتعلّق بهذه الآیات العشرة من معارف علمیة وأوامر عملیة؛«أنّهم کانوا یأخذون من رسول الله (صلّی الله علیه وآله) عشر آیات فلا یأخذون في العشر الآخر حتّی یعلموا ما في هذه من العلم والعمل». إنّ بعض الأحیان کانت لآیة بارقة من الأثر المخصوص حتّی کانت تعرف بأصل کليّ عام؛ مثل الرجل الذي دخل علی الرسول الأکرم (صلّی الله علیه وآله) حتی یتعلّم القرآن؛ فبعد ما وصل إلی قوله تعالی:«فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ‎* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»؛ فقال یکفیني هذا الکلام ثم انصرف؛ فقال النبيّ الأعظم (صلّی الله علیه وآله):«نصرف الرجل وهو فقیه». فینقدح من خلال ذلك نقطة أخری وهي أنّ الفقه لم یقتصر علی تعلّم الأحکام فقط حیث إنّ القرآن تنبّه إلهي؛ فلو لم یکن أحد واجداً لشرائط تلقّي القرآن العملیة والعلمیة فرأی ما یعدّ من محکماته غیر بالغ فلیتهم فکره حینئذ لا القرآن المجید؛ وذلك قول عليّ (علیه السلام) حیث قال:«واتهموا عایه آراءکم». القرآن الکریم معیار الدخول إلی الجنة والنار إنّ القرآن الکریم من جهة کونه دلیلاً إلی الجنة فمن یجعله مقتداه سیبلغ الجنة ومن یجعله وراء ظهره سیدخل النار؛ کما قال النبيّ الأکرم (صلّی الله علیه وآله):«من جعله أمامه قاده إلی الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلی النار وهو الدلیل علی خیر سبیل». فمن هذه الجهة تکون درجات الجنة بعدد آیات القرآن الشریفة لتعلّق کلّ آیة من آیاته بمقام من مقامات الجنّة؛ ولا یبلغ إلی جمیع درجاتها وینتفع بـ:«جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ»؛ إلی قوله:«وَادْخُلِي جَنَّتِي»؛ إلّا من وقف علی جمیع معارف القرآن وعمل بجمیع أوامره فتظهر له إزاء کلّ آیه درجة من درجات الجنة؛ وهذا ما أشار إلیه الرسول الأعظم (صلّی الله علیه وآله) بقوله:«عدد درج الجنة عدد آي القرآن الکریم فإذا دخل صاحب القرآن الجنة قیل له اقرء واقرَ، لکلّ آیة درجة فلا تکون فوق حافظ القرآن درجة». الوصول إلی جمیع معارف القرآن هو میسّر لکلّ إنسان کامل لم تکن نشأته الوجودیة متقدمة علی القرآن أو تکون مساویة له علی أقلّ التقادیر حتّی یتمکّن من أن یکون جامعاً وحافظاً لجمیع مطالبه؛ وإنّ هذا اللباس البلیغ لا یقدّر إلّا علی ذوات أهل البیت المعصومین (صلوات الله علیهم أجمعین)؛ حیث إنّه وإن کان لغیرهم من الأولیاء والأنبیاء نصیب من حقیقة القرآن غیر أنّ الاکتناه بجمیع حقائقه إنّما هو نصیب من لم یوجد تأخّر في وجوده عن حقیقة القرآن الکریم؛ لأنّ حقائق القرآن جمیعها إنّما هي من ظهورات الله سبحانه ولم تکن خارجة عن حدود الظهور والتجلّي. کون أهل البیت (علیهم لسلام) القرآن الممثّل لو کان الإنسان أوّل ظهور للحقّ ومظهراً لإسم ذات الباري تعالی الأعظم فإنّه قد أحاط بجمیع الحقائق وإنّ الإنسان الکامل الذي عرف بمنزلة مخّ أول تجلّ فإنّ له السبیل إلی معارف القرآن قطعاً؛ وإنّه القرآم المعقول والممثّل والمجسّم؛ ولم یکن في القرآن أمر لا یوجد للإنسان الکامل سبیل إلیه. فإنّه ورد في الأحادیث الشریفة بنحو کثیر أنّه لا یعلم القرآن کلّه إلّا أهل البیت (علیهم السلام)؛ ولم یتسنّ الانتفاع بالقرآن بشکل صحیح کامل إلّا عن طریق هؤلاء الذوات المقدّسة؛ وإنّ القرآن لو رؤي مجردّاً عن أهل البیت (علیهم السلام) فکأنّما لوحظ القرآن مجردّاً عن القرآن؛ فقد ورد عن الإمام الباقر (علیه السلام):«إنّ رسول الله (صلّی الله علیه وآله) أفضل الراسخین في العلم فقد علم جمیع ما أنزل الله علیه من التأویل والتنزیل وما کان الله لینزل علیه شیئاً لم یعلمه التأویل وأوصیاؤه من بعده یعلمونه کلّه». إنّ المقصود من معیة أهل البیت (علیهم السلام) للقرآن الکریم لم ینحصر بالمعیة الطبیعیة بل المقصود منها أنّهم یساوونه ویکونون معه في جمیع نشآته الوجودیة ولن یفترقا أبداً لأنّهما معتمدین علی أساس واحد ومستندین إلی فرع ثابت؛ وقال الرسول الأکرم (صلّی الله علیه وآله): هما حبل الله ممدود بینکم وبین الله عزّ وجلّ ما إن تمسّکتم به لم تضلّوا سبب منه بید الله وسبب بأیدکم... إنّ اللطیف الخبیر قد نبّأني أنّهما لم یفترقا حتّی یردا عليّ الحوض کأصبعيّ هاتین، (وجمع بین سبّابتیه)؛ ولا أقول کهاتین (وجمع بین سبّابته والوسطی) فتفضّل هذه علی هذه». بمعنی أنّه جمع في تفهیم معیة القرآن وأهل البیت (علیهم السلام) بین سبّابته الیمنی وبین سبّابته الیسری فقال إنّ القرآن والعترة هکذا؛ ولم یجمع بین سبّاته وبین إصبعه الوسطی حتّی تفضّل إحداهما علی الأخری. فالمراد بهذه المعیة القائمة بین القرآن وأهل البیت (علیهم السلام) کما أشیر إلیه آنفاً وقال به بعض الأعاظم أیضاً؛ أنّه اصطحاب حقیقة القرآن في کلّ موطن ومواطنه الوجودیة مع الإمام (علیه السلام) والرسول الأعظم (صلّی الله علیه وآله)؛«إنّ القرآن معهم في قلوبهم في الدنیا فإذا صاروا إلی عند الله عزّ وجلّ کان معهم ویوم القیامة یردون الحوض وهو معهم». فهذه عبارات وجیزة بینّاها تبرّکاً بذکر عظمة القرآن الکریم ونأتي بالبحث حول أصل التفسیر وتفسیر القرآن بالقرآن والتفسیر الموضوعيّ في رسالة أخری. الجواديّ الآمليّ 19 شهریور 1363 قم المقدّسة